فصل: تفسير الآيات (168- 171):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (165- 167):

{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ (165) إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ (166) وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167)}
{ومن النَّاس مَنْ يتخذ من دون الله أنداداً} يعني: الأصنام التي هي أندادٌ بعضها لبعضٍ، أَيْ: امثال {يحبونهم كحب الله} أي: كحبِّ المؤمنين الله {والذين آمنوا أشد حباً لله} لأنَّ الكافر يُعرِضُ عن معبوده في وقت البلاء، والمؤمن لا يُعرض عن الله في السِّراء والضَّراء، والشِّدَّة والرَّخاء، {ولو يرى الذين ظلموا} كفروا {إذ يرون العذاب} شدَّة عذاب الله تعالى وقوّته لعلموا مضرَّة اتِّخاذ الأنداد، وجواب لو محذوفٌ، وهو ما ذكرنا.
{إذ تبرَّأ الذين اتُّبعوا} هذه الآية تتصل بما قبلها؛ لأنَّ المعنى: وإنَّ الله شديد العذاب حين تبرَّأ المُتَّبَعُون في الشِّرك من أتباعهم عند رؤية العذاب، يقولون: لم ندعُكم إلى الضَّلالة وإلى ما كنتم عليه {وتقطعت بهم} عنهم {الأسباب} الوصلات التي كانت بينهم في الدُّنيا من الأرحام والموَّدة، وصارت مُخالَّتهم عداوةً.
{وقال الذين اتبعوا} وهم الأتباع {لو أنَّ لنا كرَّةً} رجعةً إلى الدُّنيا تبرَّأنا منهم {كما تبرَّؤوا منا كذلك} أَيْ: كتبرُّئ بعضهم من بعضٍ {يريهم الله أعمالهم حسراتٍ عليهم} يعني: عبادتهم الأوثان رجاء أن تُقرِّبهم إلى الله تعالى، فلمَّا عُذِّبوا على ما كانوا يرجون ثوابه تحسَّروا.

.تفسير الآيات (168- 171):

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168) إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (169) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (170) وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (171)}
{يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالاً طيباً} نزلت هذه الآية في الذين حرَّموا على أنفسهم السَّوائب والوصائل والبحائر، فأَعلمَ الله سبحانه أنَّها يَحلُّ أكْلُها، وأنَّ تحريمها من عمل الشَّيطان، فقال: {ولا تتبعوا خطوات الشيطان} أَيْ: سُبله وطرقه، ثمَّ بيَّن عداوة الشَّيطان، فقال: {إنما يأمركم بالسوء} بالمعاصي {والفحشاء} البخل، وقيل: كلُّ ذنبٍ فيه حدٌّ {وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون} من تحريم الأنعام والحرث.
{وإذا قيل لهم} أي: لهؤلاء الذين حرَّموا من الحرث والأنعام أشياء {اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا} ما وجدنا {عليه آباءنا} فقال الله تعالى مُنكراً عليهم: {أَوَلَوْ كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون} يتَّبعونهم؟ والمعنى: أيتَّبعون آبائهم وإنْ كانوا جهَّالاً؟! ثمَّ ضرب للكفَّار مثلاً، فقال: {ومثل الذين كفروا} في وعظهم ودعائهم إلى الله عزَّ وجلَّ {كمثل} الرَّاعي {الذي ينعق} يصيح بالغنم وهي لا تعقل شيئاً، ومعنى يَنْعِق: يصيح، وأراد {بما لا يسمع إلاَّ دعاءً ونداءً} البهائم التي لا تعقل ولا تفهم ما يقول الرَّاعي، إنَّما تسمع صوتاً لا تدري ما تحته، كذلك الذين كفروا يسمعون كلام النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وهم كالغنم؛ إذ كانوا لا يستعملون ما أمرهم به، ومضى تفسير قوله: {صم بكم عمي}، ثمَّ ذكر أنَّ ما حرَّمه المشركون حلالٌ.

.تفسير الآيات (172- 173):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172) إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173)}
{يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم} أَيْ: حلالات ما رزقناكم من الحرث والنَّعم وما حرَّمه المشركون على أنفسهم منهما {واشكروا لله إنْ كنتم إياه تعبدون} أَيْ: إنْ كانت العبادة واجبةً عليكم بأنَّه إلهكم فالشُّكر له واجبٌ، بأنه منعمٌ عليكم، ثمَّ بيَّن المُحرَّم ما هو فقال: {إنما حرَّم عليكم الميتة} وهي كلُّ ما فارقه الرُّوح من غير ذكاةٍ ممَّا يذبح {والدم} يعني: الدَّم السَّائل لقوله في موضع آخر: {أو دماً مسفوحاً} وقد دخل هذين الجنسين الخصوصُ بالسُّنَّةِ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: «أُحلَّت لنا ميتتان ودمان» الحديث. وقوله تعالى: {ولحم الخنزير} يعني: الخنزير بجميع أجزائه، وخصَّ اللَّحم لأنَّه المقصود بالأكل {وما أُهِلَّ به لغير الله} يعني: ما ذُبح للأصنام، فذكر عليه غير اسم الله تعالى {فمن اضطر} أَيْ: أُحوج وأُلْجِئ في حال الضَّرورة. وقيل: مَنْ أكره على تناوله، وأُجبر على تناوله كما يُجبر على التَّلفُّظ بالباطل {غير باغٍ} أَيْ: غير قاطعٍ للطَّريق مفارقٍ للأئمة مُشاقًّ للأمَّة {ولا عادٍ} ولا ظالم متعدٍّ، فأكلَ {فلا إثم عليه} وهذا يدلُّ على أنَّ العاصي بسفره لا يستبيح أكل الميتة عند الضَّرورة {إنَّ الله غفور} للمعصية فلا يأخذ بما جعل فيه الرُّخصة {رحيمٌ} حيث رخَّص للمضطر.

.تفسير الآيات (174- 177):

{إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (174) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (176) لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177)}
{إنَّ الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب} يعني: رؤساء اليهود {ويشترون به} بما أنزل الله من نعت محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم في كتابهم {ثمناً قليلاً} يعني: ما يأخذون من الرُّشى على كتمان نعته {أولئك ما يأكلون في بطونهم إلاَّ النار} إلاَّ ما هو عاقبته النَّار {ولا يكلمهم الله يوم القيامة} أَيْ: كلاماً يسرُّهم {ولا يزكيهم} ولا يُطهِّرهم من دنس ذنوبهم.
{أولئك الذين اشتروا الضلالة} استبدلوها {بالهدى والعذاب بالمغفرة} حين جحدوا أمر محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وكتموا نعته {فما أصبرهم} أَيْ: فأيُّ شيءٍ صبَّرهم على النَّار، ودعاهم إليها حين تركوا الحقَّ واتبعوا الباطل؟! وهذا استفهامٌ معناه التَّوبيخ لهم. وقيل: ما أجرأهم على النار!.
{ذلك} أَيْ: ذلك العذاب لهم {بأنَّ الله نزل الكتاب بالحق} يعني: القرآن فاختلفوا فيه {وإنَّ الذين اختلفوا في الكتاب} فقالوا: إنَّه رَجَزٌ، وشِعرٌ، وكهانةٌ، وسحرٌ {لفي شقاق بعيد} لفي خلافٍ للحقِّ طويلٍ.
{ليس البر..} الآية. كان الرَّجل في ابتداء الإِسلام إذا شهد الشَّهادتين، وصلَّى إلى أَيٍّ ناحيةٍ كانت ثمَّ مات على ذلك وجبت له الجنَّة، فلمَّا هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزلت الفرائض وصُرفت القِبلة إلى الكعبة أنزل الله تعالى هذه الآية، فقال: {ليس البر} كلَّه أن تُصلُّوا ولا تعملوا غير ذلك {ولكنَّ البرَّ} أَيْ: ذا البرِّ {مَنْ آمن بالله واليومِ الآخر والملائكة والكتاب والنَّبيين وآتى المال على حبه} أَيْ: على حبِّ المال. وقيل: الضميرُ راجعٌ إلى الإِيتاء {ذوي القربى} قيل: عنى به قرابة النبي صلى الله عليه وسلم. وقيل: أراد به قرابة الميت {وابن السبيل} هو المنقطع يمرُّ بك، والضَّيف ينزل بك {وفي الرِّقاب} أَيْ: وفي ثمنها. يعني: المكاتبين {والموفون بعهدهم إذا عاهدوا} اللَّهَ أو النَّاسَ {والصابرين في البأساء} الفقر {والضراء} المرض {وحين البأس} وقت القتال في سبيل الله {أولئك} أهل هذه الصفة هم {الذين صدقوا} في إيمانهم.

.تفسير الآيات (178- 182):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (178) وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179) كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180) فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181) فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (182)}
{يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى} نزلت في حَيَّينِ من العرب أحدهما أشرف من الآخر، فقتل الأوضع من الأشرف قتلى، فقال الأشرف: لنقتلنَّ الحرَّ بالعبد، والذَّكر بالأنثى، ولَنُضاعِفَنَّ الجراح، فأنزل الله تعالى هذه الآية. وقوله: {كُتب}: أُوجب وفُرض {عليكم القصاص} اعتبار المماثلة والتَّساوي بين القتلى، حتى لا يجوز أن يقتل حرٌّ بعبدٍ، أو مسلمٌ بكافرٍ، فاعتبارُ المماثلةِ واجبٌ، وهو قوله: {الحرُّ بالحرِّ والعبدُ بالعبدِ والأنثى بالأنثى} ودلَّ قوله في سورة المائدة: {أنَّ النَّفس بالنَّفس} على أنَّ الذَّكر يُقتل بالأنثى فيقتل الحرُّ بالحرَّة {فمن عفي له} أَيْ: تُرك له {من} دم {أخيه} المقتول {شيءٌ} وهو أن يعفو بعض الأولياء فيسقط القود {فاتباع بالمعروف} أَيْ: فعلى العافي الذي هو ولي الدَّم أن يتبع القاتل بالمعروف، وهو أن يطالبه بالمال من غير تشدُّد وأذىً، وعلى المطلوب منه المال {أداءٌ} تأدية المال إلى العافي {بإحسانٍ} وهو ترك المطل والتَّسويف. {ذلك تخفيفٌ من ربكم ورحمة} هو أنَّ الله تعالى خَيَّرَ هذه الأمَّة بين القصاص والدية والعفو، ولم يكن ذلك إلاَّ لهذه الأُمَّة {فمن اعتدى} أَيْ: ظلم بقتل القاتل بعد أخذ الدية {فله عذابٌ أليم}.
{ولكم في القصاص حياة} أَيْ: في إثباته حياةٌ، وذلك أنَّ القاتل إذا قُتل ارتدع عن القتل كلُّ مَنْ يهمُّ بالقتل، فكان القصاص سبباً لحياة الذي يُهَمُّ بقتله، ولحياة الهامِّ أيضاً؛ لأنه إنْ قَتلَ قُتل {يا أولي الألباب} يا ذوي العقول {لعلكم تتقون} إراقة الدِّماء مخافة القصاص.
{كتب عليكم...} الآية. كان أهل الجاهليَّة يُوصون بمالهم للبعداء رياءً وسُمعةً، ويتركون أقاربهم فقراء، فأنزل الله تعالى هذه الآية. {كتب عليكم} فُرض عليكم وأُوجب {إذا حضر أحدكم الموت} أَيْ: أسبابه ومُقدِّماته {إنْ ترك خيراً} مالاً {الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف} يعني: لا يزيد على الثلث {حقاً} أي: حقَّ ذلك حقَّاً {على المتقين} الذين يتَّقون الشِّرك، وهذه الآية مسنوخةٌ بآية المواريث، ولا تجب الوصية على أحدٍ، ولا تجوز الوصية للوارث.
{فَمَنْ بدَّله بعد ما سمعه} أَيْ: بدَّل الإِيصاء وغيَّره من وصيٍّ ووليٍّ وشاهدٍ بعد ما سمعه عن الميت {فإنما إثمه} إثم التَّبديل {على الذين يبدلونه} وبَرِئ الميِّت {إن الله سميع} سمع ما قاله المُوصي {عليم} بنيَّته وما أراد، فكانت الأولياء والأوصياء يمضون وصيه الميت بعد نزول هذه الآية وإن استغرقت المال، فأنزل الله تعالى: {فمن خاف} أَيْ: علم {من موصٍ جنفاً} خطأً في الوصية من غير عمدٍ، وهو أن يُوصي لبعض ورثته، أو يوصي بماله كلِّه خطأً {أو إثماً} أَيْ: قصداً للميل، فَخافَ في الوصية وفعل ما لا يجوز مُتعمِّداً {فأصلح} بعد موته بين ورثته وبين المُوصى لهم {فلا إثم عليه} أَيْ: إِنَّه ليس بمبدلٍ يأثم، بل هو متوسطٌ للإِصلاح، وليس عليه إثمٌ.

.تفسير الآيات (183- 185):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184) شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185)}
{يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام} يعني صيام شهر رمضان {كما كتب} يعني: كما أُوجب {على الذين من قبلكم} أَيْ: أنتم مُتَعَبِّدون بالصَّيام كما تُعبِّد مَنْ قبلكم {لعلكم تتقون} لكي تتقوا الأكل والشُّرب والجماع في وقت وجوب الصَّوم.
{أياماً معدودات} يعني: شهر رمضان {فمن كان منكم مريضاً أو على سفرٍ} فأفطر {فعدَّةٌ} أَيْ: فعليه عدَّةٌ، أَيْ: صوم عدَّةٍ، يعني: بعدد ما أفطر {من أيام أُخر} سوى أيَّام مرضه وسفره {وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين} هذا كان في ابتداء الإسلام؛ مَنْ أطاق الصوم جاز له أن يُفطر، ويُطعم لكلِّ يومٍ مسكيناً مُدَّاً من طعام، فَنُسِخ بقوله: {فمن شهد منكم الشهر فليصمه} {فمن تطوع خيراً} زاد في الفدية على مُدٍّ واحدٍ {فهو خيرٌ له وأن تصوموا خيرٌ لكم} أيْ: والصَّوم خيرٌ لكم من الإِفطار والفدية، وهذا إنَّما كان قبل النَّسخ.
{شهر رمضان} أَيْ: هي شهر رمضان. يعني: تلك الأيام المعدودات شهر رمضان {الذي أُنزل فيه القرآن} أُنزل جملةً واحدً من اللَّوح المحفوظ في ليلة القدر من شهر رمضان، فوضع في بيت العزَّة في سماء الدُّنيا، ثمَّ نزل به جبريل عليه السَّلام على محمد صلى الله عليه وسلم نجوماً نجوماً عشرين سنةً {هدىً للناس} هادياً للنَّاس {وبينات من الهدى} وآياتٍ واضحاتٍ من الحلال والحرام، والحدود والأحكام {والفرقان} الفرق بين الحقِّ والباطل {فمن شهد منكم الشهر} فمَنْ حضر منكم بلده في الشَّهر {فليصمه} {ومَنْ كان مريضاً أو على سفرٍ فعدَّةٌ من أيام أخر} أعاد هاهنا تخيير المريض والمسافر؛ لأنَّ الآية الأولى وردت في التَّخيير للمريض والمسافر والمقيم، وفي هذه الآية نُسخ تخيير المقيم، فأُعيد ذكر تخيير المريض والمسافر ليعلم أنَّه باقٍ على ما كان {يريد الله بكم اليسر} بالرُّخصة للمسافر والمريض {ولا يريد بكم العسر} لأنَّه لم يشدِّد ولم يُضيِّق عليكم {ولتكملوا} عطف على محذوف والمعنى: يريد الله بكم اليسر، ولا يريد بكم العسر لِيَسْهُلَ عليكم {ولتكملوا العدَّة} أَيْ: ولتكملوا عدَّة ما أفطرتم بالقضاء إذا أقمتم وبرأتم {ولتكبروا الله} يعني التَّكبير ليلة الفطر إذا رُئي هلال شوال {على ما هداكم} أرشدكم من شرائع الدِّين.

.تفسير الآيات (186- 188):

{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186) أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآَنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آَيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187) وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (188)}
{وإذا سألك عبادي عني...} الآية. سأل بعض الصَّحابة النبيَّ صلى الله عليه وسلم: أقريبٌ ربُّنا فنناجيَه، أم بعيدٌ فنناديَه؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية، وقوله تعالى: {فإني قريبٌ} يعني: قربه بالعلم {أجيب} أسمع {دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي} أَيْ: فليجيبوني بالطَّاعة وتصديق الرُّسل {وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون} ليكونوا على رجاءٍ من إصابة الرُّشد.
{أحلَّ لكم ليلة الصيام...} الآية. كان في ابتداء الإسلام لا تحلُّ المجامعة في ليالي الصَّوم، ولا الأكل ولا الشُّرب بعد العشاء الآخرة، فأحلَّ الله تعالى ذلك كلَّه إلى طلوع الفجر، وقوله: {الرفث إلى نسائكم} يعني: الإِفضاء إليهنَّ بالجماع {هنَّ لباسٌ لكم} أَيْ: فراشٌ {وأنتم لباس} لحافٌ {لهنَّ} عند الجماع {علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم} تخونون أنفسكم بالجماع ليالي رمضان، وذلك أنَّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه وغيره فعلوا ذلك، ثمَّ أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألونه، فنزلت الرُّخصة {فتاب عليكم} فعاد عليكم بالترخيص {وعفا عنكم} ما فعلتم قبل الرُّخصة {فالآن باشروهنَّ} جامعوهنَّ {وابتغوا} واطلبوا {ما كتب الله لكم} ما قضى الله سبحانه لكم من الولد {وكلوا واشربوا} اللَّيل كلَّه {حتى يتبين لكم الخيط الأبيض} يعني: بياض الصُّبح {من الخيط الأسود} من سواد اللَّيل {من الفجر} بيانُ أنَّ هذا الخيط الأبيض من الفجر لا من غيره {ثمَّ أتموا الصيام إلى الليل} بالامتناع من هذه الأشياء {ولا تباشروهنَّ وأنتم عاكفون في المساجد} نهيٌ للمعتكف عن الجماع؛ لأنه يُفسده، {تلك} أَيْ: هذه الأحكام التي ذكرها {حدود الله} ممنوعاته {فلا تقربوها} فلا تأتوها {كذلك} أَيْ: مثل هذا البيان: {يبين الله آياته للناس لعلهم يتقون} المحارم.
{ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل} أَيْ: لا يأكل بعضكم مال بعضٍ بما لا يحلُّ في الشَّرع، من الخيانة والغصب، والسَّرقة والقمار، وغير ذلك {وتُدْلُوا بها إلى الحكام} ولا تصانعوا أَيْ: لا ترشوا بأموالكم الحكَّام لِتقتطعوا حقَّاً لغيركم {لتأكلوا فريقاً} طائفةً {من أموال الناس بالإِثم} بأن ترشوا الحاكم ليقضي لكم {وأنتم تعلمون} أنَّكم مُبطلون، وأنَّه لا يحلُّ لكم، والأصل في الإِدلاء: الإِرسال، من قولهم: أدليتُ الدَّلو.